نستفظِع القتل ونعفو عنه
سليم الحص



في 25/6/2005 قام نائب بيروت، ورئيس اكبر كتلة في مجلس النواب، الشيخ سعد الحريري، بزيارة الدكتور سمير جعجع في سجنه في اليرزة، وقد استمر اللقاء، كما جاء في الاخبار، زهاء الساعة ونصف الساعة، تناولا فيه شتى القضايا المطروحة على الساحة السياسية. وقد جاء في خبر الزيارة ان الشيخ سعد الحريري كان حريصاً على القيام بها عملاً بنهج المصالحة الوطنية الذي كان التزمه في تحالفاته الانتخابية، وكذلك من اجل تأكيد تبنيه وكتلته قضية الافراج عنه. هذه الزيارة تستثير جملة مسائل:
أول التساؤلات: هل هكذا تكون المصالحة الوطنية؟ هل تكون بالتحالف الانتخابي او بتبادل الزيارات؟
لا بد من التأكيد بداية على ان التنابُذ الشخصي غير جائز في العمل العام في حال من الاحوال. إن من يخوض معترك السياسة لا يجوز ان يكون سلوكه محكوماً من قريب او بعيد بنوازع الحقد او الضغينة او العداء. فالانفتاح من مزايا السياسي المسؤول، والحوار سبيله الى التخاطب مع الحليف والخصم على حد سواء، والخلاف في الرأي يجب ألا يفقد في الود قضية. ولكن التحالف الانتخابي يجب ان يكون تعبيراً عن تلاق في الرؤى والمنطلقات والمشاريع المستقبلية. فمن المفروض ان يقترع الناخب لتوجه معيّن، او لموقف او لخط سياسي او وطني محدّد، وليس لمجرد شخص معيّن. هل صحيح ان من تقاتلوا إبان الحرب اللبنانية القذرة، ومن فرقت بينهم توجهات ومواقف من قضايا وطنية مصيرية، يستطيعون ردم ما كان بينهم من هوة بمجرد اللقاء الشخصي او التحالف الانتخابي؟
لو كان الخلاف شخصيا لكان هذا طريق المصالحة، أما اذا كانت الخلافات سياسية مبدئية فلا تكون المصالحة الحقيقية على غير التلاقي حول رؤى ومواقف ومشاريع مشتركة على مستوى الوطن؟ متى واين كان الحوار بينهم، وعلام اتفقوا، حتى يقال ان المصالحة قد تمت؟ هل كان ثمة تقاطع في المفاهيم والرؤى حيال قضايا الطائفية والفساد والحرية والديموقراطية والهوية والإصلاح في شتى وجوهه؟ من هنا التساؤل المشروع: هل كانت التحالفات الانتخابية من باب الائتلاف السياسي والوطني ام كانت مجرد تعبير عن رغبة مشتركة في الوصول الى النيابة ومن ثم الى الحكم؟ بعبارة اخرى، هل كانت التحالفات
الانتخابية مبادرات وفاقية ام كانت مجرد خطوات وصولية؟
ولا ننسى ان الدكتور سمير جعجع، رئيس <<تنظيم القوات اللبنانية>>، محكوم في جريمة اغتيال المغفور له الرئيس رشيد كرامي. وكانت زيارة الشيخ سعد الحريري له في السجن تعبيراً عن التزامه السير في طريق الافراج عن المحكوم باستصدار قانون بالعفو عنه. وهنا تتبادر الى الاذهان جملة تساؤلات. أولها: هل سيكون الافراج عن الدكتور جعجع لانه بريء، او لان الحكم عليه لم يكن عادلاً، او لان طي صفحة الماضي من مقتضيات المصالحة الوطنية وبالتالي من مستلزمات توطيد الوحدة الوطنية؟
يصوّر كثيرون من انصار الدكتور جعجع ان الرجل مظلوم، اي انه بريء مما أُدين به. إن الذي اصدر الحكم على الدكتور جعجع بالإعدام، ثم خفف الحكم الى السجن المؤبد، كان قاضياً معروفاً بنزاهته وموضوعيته وتجرده وغزارة علمه (هو القاضي منير حنين). فكيف يكون الحكم جائراً؟ مع ذلك، في حال كان الحكم غير عادل او كان مشوباً بعيب قانوني، يجب ان تكون المطالبة بإعادة المحاكمة وليس بالعفو. فالعفو يبطل مفعول الحكم ولكنه لا يبرئ المحكوم. فإذا كان الدكتور جعجع بريئاً فيجب ان يصدر حكم ببراءته من المحكمة. فهو يستحق اكثر من العفو، إنه يستحق التبرئة. وإذا ثبتت براءته فإن احتجازه اكثر من عشر سنوات سيكون في منزلة الخطيئة التي لا تغتفر. عند ذاك سيكون على الدولة من رأسها الى اخمص قدميها الاعتذار منه، ولا بد من مقاضاة القضاء الذي اصدر الحكم في حقه. فالاعتذار لا يكفي.
بين القضاة من يؤكد ان اعادة المحاكمة غير جائزة، لان الحكم مبرم. كذلك هي احكام المجلس العدلي. هذا في نظرنا هراء. إذا كان المحكوم بريئاً فلا يجوز ان تحول دون استعادته حريته فنيات قانونية او دستورية. ومجلس النواب لا يفتأ يذكّرنا بين الفينة والاخرى انه سيد نفسه، فهو يستطيع ان يسن ما يشاء من تشريع، فكيف اذا كان هذا التشريع لإحقاق حق؟ الظلم خطيئة لا يجوز السكوت عنها.
هناك آخرون يقولون بأن الحكم لم يكن عادلا، ليس لان ثمة خللاً او عيباً قانونياً فيه بل لان آخرين ارتكبوا مثلما ارتكب الدكتور جعجع من الجرائم واكثر إبان الحرب اللبنانية القذرة ولم تقربهم العدالة، فلم يحاكموا ولم يحكم عليهم وبقوا طلقاء أحراراً وبعضهم تسلّق ارفع المناصب والمقامات وهم اليوم من وجوه المجتمع واركان النظام. فأين العدالة؟ هذا صحيح. وقد شمل قانون العفو العام الذي صدر إثر الاحداث كل الجرائم المرتكبة خلال الحرب ما عدا جرائم محدّدة، منها تلك المحالة على المجلس العدلي، وكان منها جريمة اغتيال المغفور له الرئيس رشيد كرامي. وبين الناس من يقول بوجوب ملاحقة سائر مجرمي الحرب بدلاً من المطالبة بالعفو عمن أُدين منهم. وجرائم القتل لا يعفو عنها الزمن. هذا صحيح، ولكن هيهات.
والمفارقة في موقف الشيخ سعد الحريري انه، بطبيعة الحال، في مقدّم المطالبين بالاقتصاص من المسؤولين عن مقتل والده الشهيد وهو رئيس وزراء سابق. فكيف يوفّق بين هذه المطالبة المشروعة وبين السعي الى الافراج عن قاتل الرئيس كرامي، وكان في سدة رئاسة الوزراء يوم اغتياله. لماذا نطلب الحقيقة في قضية، ونتجاهلها في قضية مماثلة حيث هي واضحة وضوح الشمس؟ هذا مع العلم ان نتيجة الانتخابات النيابية في الشمال، وبخاصة في طرابلس مدينة الرئيس رشيد كرامي، جاءت لمصلحة المنادين بالافراج عن المدان بالجريمة.
وفي حال كان الدكتور جعجع غير بريء من الجريمة، وهذا ما يفترض ان يكون في ضوء الحكم الصادر في حقه، فإن المطالبة بالافراج عنه تبقى مشروعة اذا كان في ذلك ما يعزز قضية المصالحة الوطنية ويساعد على ترميم الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية يجب ان تكون اولوية لا يتقدم عليها اي اعتبار، فهي تعادل لبنان في وجوده. فمن المسلمات ان لبنان يكون واحداً او لا يكون.
ولكن، في تلك الحال، من الطبيعي، لا بل من الضروري، ان يسبق الافراج عن الدكتور جعجع اعتراف منه بالضلوع في الجريمة والاعتذار من أهل الشهيد ومدينته لا بل من الشعب اللبناني. فهو إن أعفي من عقوبة الإعدام، ونحن من المعارضين مبدئياً لعقوبة الإعدام، وإذا كان سيعفى من عقوبة السجن المؤبد، فلا اقل من ان يؤدي عقوبة الندم، وهذا اضعف الإيمان.
هناك من يتساءل، وبحق: إذا تقرر الافراج عن قاتل فمن الذي يبقى في السجن؟ هل يفرج عن قاتل ويستبقى في السجن سارق رغيف او نشال في حافلة او زقاق؟ ثم إن لبنان يواجه هذه الايام مسلسلاً مروعاً من الاغتيالات المنكرة. فبعد محاولة اغتيال مروان حمادة واغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري ومعه باسل فليحان كان اغتيال الكاتب المعروف سمير قصير والمناضل الوطني جورج حاوي. هل يكافح هذا المسلسل الاجرامي بالعفو عن قاتل؟ يبدو وكأنما بتنا ننشد الشيء ونقيضه في آن واحد.
إننا لا نعارض الافراج عن الدكتور جعجع إذا كان ذلك يأتي في سياق المصالحة الوطنية ويصب في خدمة الوحدة الوطنية. ولكننا نطالبه اولا بالاعتراف بخطيئته وتلاوة فعل الندامة واستغفار أهل الشهيد والشعب اللبناني على فعلته. هذا اقل ما يقتضيه هول الجريمة والوفاء لروح الشهيد. أما ان يصوّر انه بريء، وكأن الجريمة لم تكن، او كأن دم الرئيس رشيد كرامي مستباح، فهذا امر لا يقره عقل او ضمير. ولا مشاحة في ان الوحدة الوطنية قضية، لا تتقدم عليها قضية اخرى. ولكن الافراج عن قاتل مدان مسألة اخلاقية قبل ان تكون قانونية، لا يجوز الاستهانة بها، ولا بد من تطويق تداعياتها.