يجمع علماء الاجتماع والسياسة كافة على أن الأوطان جديرةٌ بالبذل والعطاء بلا منّةٍ وبلا حدود؛ فالوطنُ يستحق كلّ التضحيات مهما تكن غالية؛ مِن تجاوزِ المصالح الشخصية والآنيّة، إلى نبل الإستشهاد.
الأوطان تحيا بالعطاء، وتسمو بالتضحيات، فكيف لو أن الوطن هو لبنان؟
قَدرُ لبنان على صُورَةِ مزاياه، كبير على قدر دوره ورسالته.
لبنان قدوةُ تحدياتِ البشرية في الإرث الحضاري، كما في ديموقراطية التنوّع الديني ونعمة الإقرار بالآخر.
لبنان اختبار للانسان؛ يُثْبِت رُقيّه واستحقاقه للمفاهيم الإنسانيّة النبيلة.
لبنانُ الرسالة؛ الوطنُ القدوة والنموذج؛ يليقُ به العطاء؛ وترخُصُ له التضحيات مهما غَلت.
عرفته منذ وُلِدت؛ صَهرَني بالطموح وبالمعاناة: لبنان الحرية؛ لبنان العلم، ولبنان الصدق والجدية بقدر ما هو لبنان المُستهدف، لبنان الطوائف ولبنان الإقطاع. عَرَفْتُهُ طالباً، من دون تعصب ولا تفرقة، عَرَفْتُهُ مواطناً منتجاً في القطاع الخاص يكافح الحواجز ويتخطى المصاعب، عَرَفْتُهُ وزيراً على مدى سنواتٍ من الأداء، عرفته نائباً تشرّف بحمل ثقة مواطنيه تحت قبة البرلمان، وعَرَفْتُهُ رئيساً للوزراء في مرحلة حساسة جداً من مصير الوطن.
تَتوثّقُ معرفتي بلبنان في كل يوم ويزداد اعتزازي بالإنتماء الى هذا الوطن؛ وفي كل يومٍ أيضاً؛ حصادٌ جديد اسأل نفسي في كل عشية، ماذا علّمني لبنان؟
علّمني لبنان الوطن، أنه بلد التوافق وصياغة الشراكة المواطنيّة الحقيقيّة، فلا يزدهر ولا يعمّه الرخاء إلاّ إذا حُكِمَ بالتوافق.
علّمني لبنان الدولة، أنّه هبةٌ لأبنائه وبناته، شرط أن نَكُونَ موحّدين بغنى تَنَوُّعِنا؛ مُنفتحين مثل شاطئه، أنقياء في شراكتنا الوطنيّة كثلجه، محصنين ضد التفرقة كجباله الشامخة؛ ومنتشرين بالأفكار والإبداع كسهله الخصب.
علّمني لبنان أن المستحيل وهمٌ بعدما تحقق التحرير أو كاد عبر المقاومة الشريفة التي تعزز كرامة الوطن بفعل وحدة اللبنانيين التي يجب أن تصان أبداً.
علّمني لبنان المواطن، أن صحّة الداخل وعافيته، تَمْنَعان تدخّل الخارج وأطماعه. مَناعةُ خلل الداخــل هي مِنْعَــةُ لبنان من أهواء الخارج ومخاطره.
علّمني لبنان واللبنانيّون أيضاً، أنه يتألم من الصفقات ومن المهاترات ومن الصِغَرْ في النفوس وفي المبادىء.
علّمني لبنان العدالة، مخاطر وظلم اعتماد منهج الانتقاء والانتقام؛ فالعدل شامل لا ينتقي ولا يستنسب، والانتقام آفة تعوق سمو المواطنية، وجوهر العقد الاجتماعي.
علّمني لبنان واللبنانيّون، أنه يرنو إلى الإصلاح الإرادي، سياسياً، إدارياً، ماليّاً وقضائيّاً، ويتلهف الى التغيير الإيجابي، بعدما أعياه الإرتجال والإستنساب، وأنهكه الاهدار والفساد.
علّمني لبنان أنه يئن وينزف من النعرات ومن إثارة الغرائز.
علّمني لبنان واللبنانيّون أن العطاءَ يُساوي الأَخذ مَنْفِعةً وترفُعـّاً؛ كما علّمني أَنَّ ارتقاءَ المواطنيّة، هو بنسبة تفوّّق العطاء على منافع الأخذ من الوطن.
علّمني لبنان أنه منيعٌ كأبطال الإغريق؛ إلاّ في كاعب آخيل؛ نقطة الضعف الوحيدة ألا وهي دوامة الطائفيّة العمياء التي تهدّد لبنان، وتُمعن في ألمه وفي نزفه، وفي تأَخُرِهِ عن مواكبة التطور وإنجاز ما يستحقُ حضارياً واقتصادياً.
علّمني لبنان أنه قادر ومستحق لعلاقات متوازنة، متكاملة وعلى أسس الشراكة المتساوية، على قاعدة الند للند مع كل الدول الشقيقة وبخاصة سوريا، ومع الدول الصديقة في العالم كلّه.
علّمني لبنان واللبنانيّون فتياناً وصبايا، أنّ سرّ تألُقه في شبابه، وقد آن الآوان لإشراك الشباب عبر عقد فعّال للأجيال المقبلة.
علّمني لبنان واللبنانيّون أنّه جديرٌ بالديموقراطيّة؛ مُنسجمٌ مع كيانه في نشر الحريّات على أنواعها من معتقدٍ ورأيٍ وتعبيرْ.
واليوم، مرحلةٌ جديدة؛ أعتّز بأنّي أَقْرَنْتُ الوعدَ بالوفاء، والأخذَ بالعطاء، والتضحية بالارتقاء، وبإرساءِ نموذجٍ رائدٍ في فصل الأداء الوطني عن المصالح السياسيّة الآنيّة.
واليوم أيضاً، مفترقٌ على درب المصير بمقدار ما هو ملبدٌ بغيوم المجهول والمخاطر بقدر ما هو في وجهة الغد الواعد.
سأكونُ للبنان على صورةِ ما تعلّمتُ مِنْهُ؛ لا ضرورَة للمواقع، ولا حتميّة للمناصب. أعتزُ بموقعي اليوم، مستمراً في الحياة العامة.
الحكم استمرار وفوقه الانتماء الى الوطن والتزام الشأن العام. مستمرون معكم؛ لكلّ لُبنان، لأنّه لبنان؛ ولأننا على صورته وعلى عهدنا له بالعطاء واستحقاق منعته واستقراره، حريّته، وسيادته واستقلاله، ورخائه وازدهاره.
علّمني لبنان وهو نِعْمَ "المُعلّم"، وأعّتز باستمراري في العمل له، تلميذاً "نجيباً".